📁 من موضوعاتنا

كيف انتصرت اللغةُ العربيةُ على اللغةِ القبطيةِ؟

رأينا كيف كان ضعفُ اللغةِ القبطيةِ قبل الفتحِ الإسلامي لمصرَ، وعرفنا كيف أن اللغةَ القبطيةَ كانت ضعيفة ومهانة وفي طريقِ الموتِ الأبدي.
وعرفنا أن ضعف اللغة القبطية لم يكن تلقائيًّا بل حدث هذا الضعف نتيجة عوامل متنوعة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأدبي والعلمي...
وعرفنا كيف كانت اللغة القبطية مهانة ضعيفة تنتظر لغة أخرى تأتي لتدفنها، وهو ما كان؛ حيث جاءت اللغة العربية القوية ذات الهيبة والتي يتسيد أصحابها العالم وقتها،
كيف انتصرت اللغة العربية على اللغة القبطية- هل منع العرب استعمال اللغة القبطية
كيف انتصرت اللغة العربية على اللغة القبطية- هل منع العرب استعمال اللغة القبطية؟
وهزمت اللغة القبطية الضعيفة المهان أصحابها من قبل الاحتلالات المتتابعة ودفنتها دفنتها الأبدية.

أحوال اللغة القبطية بعد الفتح الإسلامي لمصر

سنتعرف في هذا المقال:
حالَ اللغةِ القبطيةِ بعد الفتحِ الإسلامي لمصر، وكيف هُزمت هزيمتها النهايةُ وماتت موتها الأبديُ أمام العربيةِ القويةِ معنويًّا وماديًّا؟!!
كيف انتصرت اللغة العربية على اللغة القبطية؟
ما هي عوامل انتصار اللغة العربية على اللغة القبطية؟ كيف كان النزال بينهما؟
كيف انتشرت اللغة العربية في مصر؟ وكيف انتهت اللغة القبطية بلا رجعة؟
وكيف هزمت القبطية بلا مقاومة قوية فعالة؟
وكان من الطبيعي أن تُهزم القبطيةُ الضعيفةُ والأضعفُ أصحابها أمام العربيةِ القويةِ العزيزةِ والأعزُ والأقوى أصحابها، لقد كان لانتصارِ العربيةِ وبقاءها، وهزيمةُ اللغةِ القبطيةِ وفناءها عواملَ عديدةً، ومراحلَ عدةً، نستعرضها في مقالنا هذا

موقفُ العربِ من اللغةِ القبطيةِ بعد الفتح الإسلامي لمصر

لم يظهر من العربِ بعد فتحهم لمصرَ أي عداءٍ للغةِ القبطيةِ، ولم يتخذوا أي موقفٍ عدائيٍ منها، ولم يقوموا بأي إجراءٍ ضدها، كما لم يعادوا أو يقفوا ضد أيًّا من لغاتِ الشعوبِ التي خضعت لهم.
بل إنهم كانوا متسامحين للغايةِ مع اللغةِ القبطيةِ والأقباطِ، وتركوا الأقباطَ ولسانهم؛ فمثلًا: 
عادت الصلوات والمواعظ بالقبطية بدلًا من اليونانية، وسمحوا للأقباطِ باسترجاعِ الأسماءِ القبطيةِ للقرى والمدنِ والأقاليمِ التي غيرها الرومانُ من قبل فمثلًا: أخميم بدلًا من بانوبوليس وإهناسيا بدلًا من هيراكليوبوليس والأشمونيين بدلًا من هرموبوليس...
وبالتأكيدِ إن من يسمحْ لقومٍ باستعادةِ الهويةِ اللغويةِ لمدنهم وقراهم الخاضعةُ له ولا يعاديها كمن قبله لن يعاديها- أي لغتهم- في الاستخداماتِ الأخرى، ويفرض عليهم لغته وثقافته.
لقد كان هدفُ العربِ من فتحِ البلادِ المجاورةِ هو هدفٌ دينيٌ فقط يمتثل في حماية الدعوة الإسلاميةونشرهان وليس له أبعادٌ قوميةٌ أو استعماريةٌ؛ لذلك نجدهم متسامحونَ للغايةِ مع ثقافةِ تلكَ الشعوبِ بجوانبها الماديةِ والمعنويةِ؛ فلم يهدموا أثرًا ولم يفرضوا لغةً، وقبل هذا وذاك لم يفرضوا دينًا.
فقط تأمينُ الدعوةِ هو ما كان يشغلهم، وتركوا للناسِ حريةُ الاختيارِ للدينِ واللسانِ.
ولا يستطيعُ كائنًا من كان أن يثبت بدليلٍ قطعي الثبوتِ قطعي الدلالةِ بأن العربَ قد فرضوا لغتهم على الأقباطِ، وأن موت القبطيةِ كان بسبب هذا الفرضِ والإجبار.

أكاذيبٌ عن فرض اللغةَ العربيةَ على الأقباطِ ومعاداة القبطية

تدور أكاذيبُ أولئكَ الحاقدينَ حولَ ثلاثةٍ أكاذيبٍ وهن:
- قيام الخليفةُ الأمويُ الوليدُ بن عبد الملك بن مروان بتعريبِ الدواوين في مصرن ومنع استعمال اللغة القبطية في الدواوين.
- الثانيةُ هي أن الحاكمَ بأمرِ اللهِ الفاطمي قررَ منعَ التحدثِ بالقبطيةِ، وقرر قطع لسان كل من يتحدث باللغة القبطية، وفرض العربيةِ على الجميعِ، وكذبهم هذا يتناقض مع قولهم بأن القبطيةَ كانت موجودةً حتى وقتٍ قريبٍ حتى إن شامبيلون استعانَ بأقباطٍ لترجمةِ حجرَ رشيدٍز
- الثالثةُ أن القبطيةَ كانت لغة مزدهرة وذات مكانةٍ، وقد رأينا أن ذلك لم يكن صحيحًا في مقالنا: أسباب ونتائج ضعف اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي لمصر، وهنا سنرى ضعفها بعد الفتحِ الإسلامي.
فإلى مناقشة ذلك والرد عليه:
أولًا-

اللغة القبطية وتعريبُ الدواوين زمن الوليد بن عبد الملك

لما قويت الدولةُ الأمويةُ في مختلفِ جوانبِ القوةِ، وحرصًا منها على خدمةِ الإسلامِ والعربيةِ وتدعيمِ أساسياتِ الدولةِ وعواملِ قوتها؛ قررَ خليفتها عبد الملك بن مروان تعريبَ الدواوين في أنحاءِ الدولةِ الإسلامية بدلًا من استعمالِ اللغاتِ الأخرى كالفارسيةِ واليونانيةِ.
ففي مصر وبالتحديدِ في عام سبعٍ وثمانون هجريةَ ( ٨٧ هـ) وأثناء خلافة الوليد بن عبد الملك تم فرضُ اللغةِ العربيةِ بدلًا من اليونانيةِ كلغةٍ رسميةٍ تُستخدم في المراسلاتِ والإدارةِ والدواوين.
ولم يتم فرض تكلمها على الشعبِ بدليلِ وجودِ من يتحدثَ القبطيةَ في زمن المأمون العباسي حيث احتاج إلى مترجمين أثناء زيارته للأريافِ المصريةِ أي بعد فرضِ اللغةِ في الدواوين بمائةٍ وستين عامًا ( ١٦٠ عامًا).
وقد اثبتت أوراق البردي وأكد المؤرخون ذلك.
إذًا تم إبدالُ اللغةِ اليونانيةِ باللغةِ العربيةِ كلغةٍ رسميةٍ، فقد كانت اللغةُ اليونانيةُ هي اللغةُ الرسميةُ مع وجودِ بعض التراجمِ أحيانًا إلى العربيةِ والقبطيةِ والسريانيةِ.
وأقدمُ بردية عربية مكتشفةً في مصر ترجع إلى عامِ اثنين وعشرينَ هجريةً ( ٢٢ هـ) أي قبلَ تعريبِ الدواوين ب ستةً وخمسين عامًا ( ٥٦ عامًا).
- إذًا فاللغةُ التي كانت لغةَ الدواوينِ قبل الفتحِ الإسلامي هي اللغةُ اليونانيةُ وليست القبطيةُ وكان يكتب بها من يعملُ في الدولةِ قبل الفتحِ الإسلامي -أيًا كانت أصولهم- وقد تعلموها لتفتحَ لهم أبوابِ الرزقِ، ثم تعلموا العربيةَ ليستمروا في أعمالهم.
ومن المسلمِ به أن اليونانيةَ كانت ذاتِ تأثيرٍ كبيرٍ حتى في مستوى الخطابِ العاديِ للعامةِ، وكان يتحدثُ بها جزءٌ كبيرٌ من الأقباطِ.
وعن تغييرِ لغةِ الدواوين إلى العربيةِ، يقول جاك تاجر في كتابهِ " أقباط ومسلمون": " ولم تؤد حركةُ التعريبِ إلى أي تذمرٍ أو احتجاجٍ من الأقباطِ، إذ كان التعريبُ انتقالًا من لغةٍ أجنبيةٍ هي اليونانيةُ إلى لغةٍ أجنبيةٍ أخرى هي العربيةُ، وكما تعلمَ الأقباطُ اللغةَ اليونانيةَ واستعملوها في الدواوين، وهي ليست لغتهم فلماذا لا يتعلمون العربيةَ ويستعملونها في الدواوين بدلًا منها وهي لغةُ المنتصرينَ ولغةٌ سوف تفتحُ أمامهم أبوابِ الرزقِ؟!".
إذًا القولُ بأن الخليفةَ الوليد بن عبد الملك بن مروان فرضَ العربيةَ على الأقباطِ مردودٌ عليه وثبت بما سبق أنه مفترى ومختلق.
والتصديقُ لذلك ينفي أكذوبتهم الثانية، حيث أنه لو فرضَ الأمويونَ العربيةَ على الأقباطِ؛ لما احتاجَ الحاكمُ بأمرِ اللهِ إلى فرضِ العربيةِ- كما يدعون زورًا وبهتانًا- بعد مرورِ أكثر من ثلاثةِ قرونٍ من قرارِ عبد الملك بن مروان. تعرف على: ثوابت إعرابية في النحو- الجزء الخامس
ثانيًا-

فرض الحاكم بأمر الله الفاطمي اللغة العربية على الأقباطِ

اصطنعُ البعضُ أكذوبةَ أن الحاكمَ بأمرِ اللهِ الفاطمي ( حكم مصر من ٩٩٦ م إلى ١٠٢١م) هو من فرضَ اللغةَ العربيةَ على الأقباطِ، مستغلون ما يُروى عن موقفِ الحاكمِ من غير المسلمين، وبالتالي قد يجد تصديقًا لأكذوبتهِ بنسبتها للحاكمِ.
ونترك الرد على هذه الأكذوبةِ للقديسِ الأنبا ساويرس بن المقفع ( ولد سنة ٩١٥ م وتُوفي سنة ٩٨٧ م) بما ذكره في كتابه: " سير الآباء البطاركة" - والذي يعد من أهم الكتبِ التاريخيةِ القبطيةِ إن لم يكن الأهم على الإطلاقِ- فيقول القديسُ ساويرس:
" فاستعنت بمن أعلمُ استحقاقهم من الإخوةِ المسيحيينَ وسألتهم مساعدتي على نقلِ ما وجدناه منها ( يعني سير الآباء البطاركة) بالقلمِ القبطي واليوناني إلى القلمِ العربي الذي هو اليومَ معروفٌ عند أهلِ هذا الزمانِ بإقليمِ ديارِ مصر لعدمِ اللسانِ القبطي واليوناني من أكثرهم".
أي إن القديسَ ساويرس بن المقفع يتحدث عن أن اللغةَ العربيةَ أصبحت لغةُ العامةِ من المصريين بمختلف أديانهم، ويتحدث عن انعدامِ اللغةِ اليونانيةِ أيضًا وهذا دليلٌ على وجودِ من يتحدث بها مع القبطيةِ قبل أن تهزمهما معًا لغتنا العربيةُ.
ويجب أن نلاحظ هنا أن الأنبا ساويرس قد كتبَ كتابهُ للأقباطِ وكتبه بالعربيةِ لأنهم لا يعرفون القبطيةَ والتي اقتصر وجودها على بعض الأمورِ في الكنائسِ. رَ مقالنا: هل كان يمكن أن يفرض العرب اللغة القبطية على الأقباط في القرون الوسطى؟
وبالنظرِ إلى تاريخِ وفاة الأنبا ساويرس سنة ٩٨٧ م وعام حكم الحاكم بأمرِ اللهِ الفاطمي ٩٩٦ م نجد أن أكذوبتهم تلك مردودة عليهم ولا أساس لوجودها وعلى من يصدقها أن يعقل ويراجع التاريخَ جيدًا، بل إن الحاكم بأمر الله كان عمره سنتان عند وفاة ساويرس بن المقفع.
ومع الجهل والحقد تنسب المواقع الإلكترونية والصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي والكتاب الجهلاء- من فئة بئر السلم- كلامًا منسوبًا للأنبا ساويرس عن الحاكم بأمر الله وعصره، فهل كتب ساويرس بن المقفع- بعد وفاته- عن زمن الحاكم بأمر الله قبل توليه السلطة؟!!
وليس ساويرس فقط من كتب للأقباطِ بالعربيةِ- له عشرات الكتب بين مطبوع ومخطوط ومفقود- بل غيره من قادةِ الأقباطِ ورجالهم.
وكتابةُ كتب التاريخِ والعقيدةِ واللغةِ لقومٍ ما بلغةٍ غير لغتهم الأصلية يعني أنهم لا يعرفون تلك اللغةِ.

عدد المسلمين وعدد الأقباط زمن الحاكم بأمر الله واللغة القبطية

الجديرُ بالذكرِ أن عددَ المسلمينَ كانَ أكثر من عددِ الأقباطِ في فترةِ حكمِ الحاكمُ بأمرِ اللهِ، حيثُ يذكرُ ماك مايكل في كتابهِ: " تاريخ العرب في السودان" أنَ عددَ المسلمينَ تفوقَ لأول مرةٍ على عددِ غيرهم في مصرَ عام ٢١٧هـ، والثابتُ من أوراقِ البردي أن الجزيةَ تناقصت كثيرًا في القرنِ الثالثِ الهجري- قبل وصولِ الحاكمِ للحكمِ- نتيجةً لتناقصِ عدد النصارى، إذًا زمنِ الحاكمِ بأمرِ اللهِ كانَ الأقباطُ أقلَّا عددًا من المسلمين.
على أن ذلك لا يعني عدم وجودِ القبطيةِ كلغةٍ ثانيةٍ منطوقةٍ لا مكتوبةً عند البعض أو في بعض الأمور الكنسية كما سيتضح في موضوعِ مراحلَ موت اللغة القبطيةِ موتها الموتَ الأبديَ.

عوامل انتصار اللغة العربية في مصر وهزيمة اللغة القبطية

كان لانتصارِ العربيةِ وهزيمةِ القبطيةِ ثم موتها الموت الأبدي عواملَ منطقيةً وقويةً وتنطبق على الصراعِ بين أي لغتينِ وليس العربيةُ والقبطيةُ فقطِ.
والعواملُ التي أدت إلى انتصارِ اللغةِ العربيةِ وهزيمةُ القبطيةِ ثم موتها الموتَ الأبديَ هي:
أ‌ـ العاملُ السياسيُ: كان العربُ هم حكامُ البلادِ وحماتها وطالَ حكمهم فكانَ من الصعبِ مخالفتهم أو عدم الخضوعِ لثقافتهم.
كما كانت العربيةُ لغةَ القيادةِ والإدارةِ والحكمِ.
بينما كانت اللغةُ القبطيةُ لغةَ المحكومينَ الخاضعينَ، البعيدةُ عن الحكمِ والإدارةِ منذ قرونٍ طويلةٍ.
ب‌- العاملُ الاقتصاديُ: كانت التجارةُ الخارجيةُ والداخليةُ والخراجُ والضرائبُ والنقلُ وحمايةُ المتنقلينَ والعملاتُ ومختلفُ الجوانبِ الاقتصاديةِ بالعربيةِ ومع العربِ.
بينما كانت اللغةُ القبطيةُ لغةَ من ليس لهم علاقةً بالتجارةِ الخارجيةِ، ولغةُ من تأثيرهمُ ضعيفٌ في الاقتصادِ الداخلي.
ودفعت المصالحُ الاقتصاديةُ سواء العملُ في الإدارةِ أو التجارةِ بمستوياتها جزءًا من الأقباطِ إلى تعلمَّ العربيةِ والترويجُ لها.
ت‌- العاملُ الدينيُ: حيث أن الإسلامَ أصبحَ دينُ الحكامِ ثم سيصبحُ دينَ أغلبيةِ المحكومينَ تدريجيًا لأسبابٍ كثيرةٍ كما سيتضح.
ث‌-العاملُ العلمي: وبينما العربيةُ اللغةُ الرئيسيةُ للعلومِ في ذلكَ الزمانِ تأليفًا وتعليمًا وترجمةً ونشرًا، لم يكن للغةِ القبطيةُ أيَّا مساهماتٍ في العلومِ سواءً قبلَ الفتحِ الإسلامي كما بينا في مقالنا السابق: ضعفُ اللغةِ القبطيةِ قبلَ الفتحَ الإسلامي لمصرَ، أو بعد الفتحِ الإسلامي لمصرَ، ولغةٌ بلا علمٍ هي لغةٌ بلا قيمةٍ معنويةٍ أو ماديةٍ، لغةٌ بلا روحٍ تجددُ حياتها، لغةٌ مريضةٌ في طريقها إلى قبرها الأبديُ وهو ما كانَ.
ج‌- العامل الأدبي: وبينما العربيةُ لغةٌ خصبةٌ غنيةٌ بصنوفِ الآدابِ وغزيرةُ الإنتاجِ لتلكَ الصنوفِ الأدبيةُ، لم يتوفر للقبطيةِ أيُ مساهمةٍ في المجالاتِ الأدبيةِ، وعدم الكتابةِ والقراءةِ أو الاستماعِ لقصصٍ وحكاياتٍ وشعرٍ وخطبٍ قيمةٍ سيؤدي حتمًا إلى نهايةِ هذه اللغةِ، وهو ما صار حتمًا للقبطيةِ.
يقول بتلر في كتابهِ " فتح العرب لمصر": " لا يستطيعَ الأقباطُ أن يفخروا بشعراءٍ مجيدينَ أو مؤرخينَ معروفينَ أو فلاسفةً أو أحدًا من رجالِ العلمِ فجل آدابهم دينيةً لقلةِ ما كان لديهم من بيانٍ وعلمٍ مما سبب إهمال لغتهم"
ويقول الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر أستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة في كتابه " قصة اللغة العربية في مصر والمغرب الأدنى" ص ٤١:
" لم يجد الباحثون شيئًا ذا قيمةٍ يستحقُ الترجمةَ من القبطيةِ إلا ما يتعلقُ بالديانةِ ولم تتم الترجمةُ له سوى في القرنِ العاشرِ، والأدبُ القبطي لم يكن أدبًا راقيًا بل قصصًا دينيةً ركيكةً، ومن أجل هذا حين جاءت حركةُ الترجمةِ النشيطةِ من اللغاتِ الأجنبيةِ إلى اللغةِ العربيةِ وبلغت قمتها لم يجد الباحثونَ شيئًا ذا بالٍ يستحقَ الترجمةَ من القبطيةَ إلا ما ندر"
ح‌-عاملُ الانتشارِ الجغرافي: والانتشارُ الجغرافيُ للغةٍ ما يمنعُ ضعفها الكليُ، فقد تضعف لفترةٍ ما في منطقةٍ وتقوى في أخرى ثم تستعيدُ صحتها وحيويتها في مكانِ الضعفِ لتعم قوتها في كل أماكنِ انتشارها وربما تتوسع خارجَ مناطقها القديمةِ.
وبينما العربيةُ منتشرةٌ في ثلاثِ قاراتٍ ويسعى إلى تعلمها الكثيرون من مختلفِ الشعوبِ، لم تكن القبطيةُ معروفةً أو لها استعمالٌ خارجَ مصرَ، بل إنها لم تكن اللغةُ الغالبةُ في بعضِ الأقاليم المصريةِ كالإسكندريةِ وبعضُ مناطقِ شرق الدلتا وقفطَ وغيرهن من الجغرافيا المصريةِ قبلَ الفتحِ الإسلامي، ثم جاءت العربيةُ لتحصرها في مناطق نائيةٍ.
خ‌-عاملُ وحدةُ اللغةِ ومركزيتها: وبينما العربيةُ لغةٌ مركزيةٌ بوجودِ القرآنِ والسنةِ والشعرِ والآدابِ والعلومِ وبوجودِ دولةٍ مركزيةٌ لغتها العربيةُ.
صحيحٌ أن للعربيةِ لهجاتٌ متعددةٌ أثرت في لهجاتِ مصر وحددت ملامحها - كما يتبين في مقالنا كيف نشأت العربية اللهجةُ المصريةُ الحديثة – فإن وجودَ الموحداتِ المركزيةُ السابق ذكرها حافظَ على وحدتها المركزية، ولم يحدث لها كما حدثَ لغيرها من الانقسامِ إلى لغاتٍ مختلفةٌ.
وهذا العاملُ لم يتوفرْ للقبطيةِ فقد كان لها ستُ لهجاتٍ بينها اختلافاتٌ جوهريةٌ في الصوتياتِ والمفرداتِ والنحوِ والصرفِ، أربعةً في مصر العليا ( الفيومية- الأسيوطية- الأخميمية- الصعيدية) وبعد القرنِ الخامسِ الميلادي أصبحت الأخيرةُ هي السائدةُ في مصرَ العليا، واثنان في مصرَ السفلى ( البشمورية - البحيرية).
ومع عدمِ وجودِ عاملٍ مركزيٍ موحدٍ لتلكِ اللهجاتِ كالقرآنِ والحديثِ للعربية أو وجودِ العاملِ السياسي كوجودِ دولةٍ مركزيةٍ للأقباطِ؛ فإنها كانت ستنفصلُ لتكوَّن كل منها لغةً مستقلةً كما حدث مع غيرها من اللغاتٍ.
د‌- النظرةُ للغة واحترامها أو احتقارها: بينما ينظرَ العربُ إلى لغتهم نظرةَ توقيرٍ وإجلالٍ لاستقلالها وكرامتها ثم نزولَ القرآنِ الكريمِ بها، كان الأقباطُ ينظرونَ إلى لغتهم نظرةً دونيةً، ويهنون لغتهم لهوانها وهوانهم لقرونٍ طويلةٍ
ففضل جزءٌ منهم التحدثَ باليونانيةِ وتعلمها، وإلى عدمِ الغيرةِ على القبطيةِ؛ فقد غيروا أبجديتهم وأخذوا الكثيرَ من اليونانيةِ والسريانيةِ سواءً في المفرداتِ أو الأصواتِ ولا ننسى أنهم كتبوا لغتهم بالأبجديةِ اليونانيةِ مع سبعِ رموزٍ فقط من أبجديتهم القديمةِ.
وإذا كان أصحابُ اللغةِ ينظرونَ إليها هكذا فما بالنا بنظرة سكانَ مصرَ من الشعوبِ الأخرى إليها.
وحدث هذا أيضًا منهم مع العربيةِ فقد تحول جزءٌ منهم إلى التحدثِ بها للحصولِ على المنافعَ والمصالحَ، ثم كتبوا قبطيتهم بالأبجديةِ العربيةِ ثم تحولوا إلى كتابةِ دينهم ولغتهم باللغةِ العربيةِ، وأيُّ ضياعٍ وهوانٍ من تكتب قواعدَ لغتك بلغةٍ أخرى.
ذ‌- مدى اندماجُ أصحابُ اللغةِ الوافدةِ مع أصحابِ اللغةِ الأصليةِ وطريقةُ تعاملهم معهم: وقد تحقق هذا العاملُ للغةِ العربيةِ نتيجةً لانتشارِ العربِ ومواليهم والمستعربينَ ( البربرُ- الأتراكُ- الأكرادُ- الأوربيونَ- الأفارقةُ...) في الأريافِ والمدنِ المصريةِ ومخالطتهم للأقباطِ وغيرهم من شعوبِ مصر وكانت معاملةُ العربِ والمستعربينَ حسنةً وراقيةً مع الأقباطِ فساهم ذلك في تقبلِ الأقباطِ للغتهم والتحدثُ بها.
وزادَ اندماجُ العربِ بغيرهم في مصر بعدما أسقطهم الخليفةُ العباسيُ المعتصم من الديوانِ فانتشروا في الأريافِ والمدنِ، وعملوا في مختلفِ المهنِ وعلى رأسها الزراعةُ ونسي الكثيرُ منهم أنسابهُ أي أنهم عربوا وتمصروا.
وإسقاطُ العربِ من الديوانِ أضعفَ نفوذَ العربِ السياسي وقوى نفوذهم الاجتماعي ِوبالتالي نفوذَ لغتهم.
وكانت نظرةُ الأقباطِ للعربِ نظرةَ هيبةٍ وتقديرٍ بسببِ عواملَ القوةِ المعنويةِ والماديةِ التي توفرت للعربِ، وأيضًا لحسن معاملةِ العربِ للأقباطِ، وبالتالي نظرةَ الهيبةِ والاحترامِ للغةِ العربِ.
وكان العربُ هم الغالبونَ سياسيًا واقتصاديًا ومع انتشارِ الغالبينَ في القرى والمدنِ قلدهم المغلوبونَ في لغتهم، حيثَ أن المغلوبَ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ.
ر‌- عاملُ الذاتيةِ أو الهيبةِ: ويُعنى به قوةُ اللغةِ وتأثيرها ودورُ المتحدثينَ بها وقوتهم الماديةِ والمعنويةِ، وقد تحقق للغةِ العربيةِ عواملَ هيبةً عديدةً منها:
- لغةُ الحكامِ والإدارةِ والقيادةِ، بينما القبطيةُ لغةُ المحكومينَ المغلوبينَ.
- لغةُ العربِ وهم الطبقةُ الارستقراطيةُ في البلادِ وهم الغالبونَ ماديًّا ومعنويًّا والمغلوبُ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ وظلَ العربُ كذلكَ حتى كثروا في البلادِ فاندمجوا مع أهلها وصار الكل عربًا.
- لغةُ الإسلامِ وهو دينُ الحكامِ وجزءٍ من المحكومينَ صارَ يتزايدُ عددهم حتى أصبحوا أغلبيةً لأولِ مرةٍ في عام ٢١٧ هجريةٍ حسبَ ماك مايكل في كتابهِ " تاريخ العرب في السودان".
- منتشرةٌ في ثلاثِ قاراتٍ وسريعةُ الانتشارِ بينما القبطيةُ سجينةَ الوادي والدلتا.
- لغةُ لعلومِ وقتها وما تبعَ ذلكَ من التعلمِ بها والنقلِ والترجمةِ منها وإليها والنشرُ بها.
- لغةُ الاقتصادِ والتجارةِ بالمنطقةِ المحيطةِ ولها تأثيرٌ في الاقتصادِ العالمي وقتها.
- لغةٌ حيةٌ غزيرةُ الإنتاجِ للآدابِ بكافةِ أنواعها ويُترجمُ منها وإليها بينما القبطية فقيرةُ الإنتاجِ الأدبي بل قد يكونُ إنتاجها الأدبي معدومًا ولا مساهمةً لها في الأدبِ العالمي.
وبينما كانت اللغةُ العربيةُ تتمتعُ بكلِ عناصرِ القوةِ الذاتيةِ كانت القبطيةُ تعاني من كل آثارِ الضعفِ والهوانِ.
ز‌- درجةُ القرابةِ بين اللغتينِ: فكلما قويت القرابةُ زادت فرصةُ انتصارِ إحداها على الأخرى، وكلما بعدت ضعفَ احتمالُ انتصارِ إحداها على الأخرى، والعربيةُ والقبطيةُ من نفسِ العائلةِ الأفروآسيويةُ، وهذا قرب من هزيمةِ القبطيةِ وانتصارُ العربيةِ عليها.
س‌- عددُ المتحدثينَ بكلِ لغةٍ: حيث كان عددُ المسلمينَ يتزايدُ يوميًا حتى صاروا أغلبيةً لأولِ مرةٍ عام ٢١٧ هجريةَ حسب ماك مايكل في كتابهِ : " تاريخُ العربِ في السودانِ".
وكانت أسبابُ زيادةِ عددَ المسلمينَ كالآتي:
1- دخولُ الأقباطِ وغيرهم من المصريينَ* في الإسلامِ تدريجيًا؛ والدليلُ على ذلكَ تناقصِ المتحصلِ من الجزيةِ في القرنِ الثالثِ الهجري عنه في القرنينِ السابقينِ.
وغالبًا أن من سيدخلُ الإسلامَ سيتعلمُ العربيةَ وسيرثها أبناءهُ وأحفادهُ.
2- زيادةُ هجراتِ العربِ إلى مصر: ويقصدُ بالهجراتِ العربيةِ هنا هجراتِ العربِ ومواليهمِ والمستعربينَ من غير الموالي، والهجراتُ العربيةُ إلى مصر بدأت قبل الميلادِ حتى النصفِ الأولِ من القرنِ العشرينَ.
وقد عدَّ الأستاذُ الدكتورُ/ عبد الله خورشيد البري في كتابهِ الوثائقيُ: " القبائلُ العربيةُ في مصر في الثلاثِ قرونِ الأولى من الهجرةِ" هجرةُ ٢٤٤ بطنًا من قبائل عربيةٍ إلى مصر في الثلاثِ قرونِ الأولى من الهجرةِ، منها ١٧٢ بطنًا من قبائل قحطانيةٍ، والباقي من قبائل عدنانيةٍ، وربما يفسرُ هذا اقترابُ اللهجةِ المصريةِ من اللهجةِ اليمنيةِ.
وقد أحصى ماك مايكل هجرةَ ٣٣ قبيلةً عربيةً إلى مصر بين عامي ١٣٣ هـ إلى ٢٤٢هـ.
أثبتَ البريُ كذلك أن عددَ العربِ تزايدَ ٧ أضعافٍ في القرنِ الأولِ الهجري بسببِ الهجرةِ والزواجِ المتعددِ للعربِ من زوجاتٍ من الأقباطِ والنوبيينَ والبجه وغيرهم، كذلك وجودُ ملكِ اليمينِ لدى جزءٍ كبير منهم، وساهمَ في هذا الوضعُ الاقتصاديُ للعربِ حيث العطاءُ من الديوانِ والتجارةِ والعملِ بالحراساتِ، وجل هذه القبائلِ اندمجت مع المصريينَ من مختلفِ الأعراقِ فعربت وتمصرت ونست أنسابها، وبقي بعضًا منها محتفظًا بنسبهِ مع من هاجرَ من العربِ في عصورٍ أحدثٍ، وقد ذكرَ المقريزيُ في كتابهِ: " البيانُ والإعرابُ عما في أرضِ مصر من الأعرابِ" أن القبائلَ التي دخلت مصر في القرونِ الأولى قد أهلكها الدهرُ أي نست أنسابها...إلخ.
3- هجراتُ المستعربينَ إلى مصر أفرادًا وجماعاتٍ: ويقصدُ بهم هنا أبناءُ الشعوبِ مثل البربر والترك والأكراد والأحباش والأوربيين والزنوج والأرمن..- الذين تعلموا العربيةَ وتحدثوا ببها سواءً تم التعريبُ خارجَ مصرَ أو داخلها.
والأمثلةُ على ذلك كثيرةً جدًا ومنها الهجراتُ القادمةُ من شمالِ أفريقيا كهجرةِ قبائل لواتة مثلًا التي انتشرت في الأريافِ المصريةِ، واختلطت بأهلها من الشعوبِ الأخرى وقد سُمي على بطونِ لواتة قرى ومدنًا في الواديِ والدلتا مثل مركز مغاغة ومركز بني مزار بمحافظة المنيا وقرى كثيرةً أخرى في المركزينِ وغيرهما.
4- هجراتُ الأقباطِ إلى خارجِ مصرَ، إلى الدولةِ البيزنطيةِ والسودان والحبشة لأسبابٍ عدة منها السببُ الدينيُ. اقرأ: أسماء رائعة للبنين والبنات- آلاف الأسماء ومعانيها
وبالنظرِ إلى جميعِ العواملِ السابقةِ نجدُ أنها كانت لصالحِ اللغةِ العربيةِ وضد القبطيةِ.
ش‌- الفترةُ الزمنيةُ التي يسودُ فيها بعض أو كل العواملِ السابقةِ: وقد بقت السيطرةُ للعربِ دون غيرهم على الحكمِ والاقتصادِ لقرونٍ عدةٍ ثم حكمَ المستعربينَ بالاستعانةِ بالعربِ، ومازال وسيظل الإسلامُ والذي لغته العربيةُ دينًا للبلادِ إلى الأبدِ بإذنِ اللهِ.
وبينما العواملُ السابقةُ جميعها في صالحِ اللغةِ العربيةِ لقرونٍ، فقد كانت نفسُ العواملِ ضد القبطيةِ لقرونٍ.
إذًا نستخلصُ مما سبقَ أن العربَ لم يجبروا أحدًا من الأقباطِ على تعلمِ العربيةِ والتحدثِ بها، بل فرضت العربيةُ نفسها لقوتها الماديةُ والمعنويةُ الناتجةُ عن قوتها الذاتيةُ وقوةِ أصحابها المعنويةُ والماديةُ والعدديةُ، وضعفُ القبطيةِ بدأ قبلَ الفتحِ الإسلامي، وهزيمتها كانت مسلمٌ بها لما ذكرناهُ من عوامل وأسبابٍ متعددةٍ متنوعةٍ.
وغايةُ المنى أن يمتنعَ أصحابُ الأكاذيبِ عن التضليلِ والتدجيلِ تجنبًا لشري الدنيا والآخرةِ. ومن لا يمتلك دليلٌ قطعيُ الثبوتِ قطعيُ الدلالةُ على فرضِ العرب للعربيةِ على الأقباطِ أن يصمت. أسئلة حول موت القبطية وانتصار العربية
* يقصد بالمصريين هنا: المصريون بمختلف أصولهم، فعند دخول العرب لمصر كان يعيش بها عدةُ شعوبٍ ولهم لغاتهم الخاصةِ مثل ( الأقباط- البربر- الفينيقيين- الديلم- الأكراد- الأحباش- اليونانيون- السريان...) فمثلًا يتحدث استرابوا المؤرخُ الرومانيُ أن مدينةَ قفط نصفُ عربيةٍ وأن العرب يحكمونها، كذلك اثبتت الدراساتُ وجودَ جالياتٍ عربيةٍ تتحدثُ العربيةَ في أماكنَ مختلفةً من مصر، أيضًا كان بالإسكندريةِ أعراقٌ مختلفةٌ، ويتحدثون لغاتٍ عدةٍ رئيسيتها اليونانيةُ....إلخ. ابن عبد الحكم: فتوح مصر- وغيره الكثير من المصادرِ.
المراجع:
1- أحمد مختار عمر: قصة اللغة العربية في مصر.
2- سيدة إسماعيل الكاشف: مصر في فجر الإسلام.
3 - المقريزي: الخطط ج١.
4- المقريزي: البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب.
5- لجنة التاريخ القبطي: تاريخ الأمة القبطية، الحلقة ٢، خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ١٣٧ طبعة ١٩٣٢، المطبعة الحديثة شارع خيرت.
6- ماك مايكل: تاريخ العرب في السودان ج ١ ص ١٦٣. Macmichael: A Hit Of the Arabs in the Sudan
7- ألفرد بتلر: فتح العرب لمصر، ترجمة محمد فريد أبو حديد، دار الكتب.
8- حسن أحمد محمود: مصر في عهد الطولونيين.
9- عبد الله خورشيد البري: القبائل العربية في مصر في الثلاث قرون الأولى من الهجرة.
10- ممدوح عبد الرحمن الحويطي: القبائل العربية في صعيد مصر منذ الفتح الإسلامي حتى قيام الدولة الفاطمية.
جمال الغريدي

جمال الغرِّيدي
جمال الغرِّيدي