📁 من موضوعاتنا

أسباب ونتائج ضعف اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي وبعده

هل اللغة – أي لغةٍ- مبنى مادي حتى يصدر قرارًا من حاكمٍ ما بفرضِ لغةٍ أخرى على شعبٍ ما والقضاءَ على لغتهِ الأصليةِ؛ فيتم له ذلك في عقدينِ من الزمنِ؟!!!
أسباب ونتائج ضعف اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي لمصر وبعده
أسباب ونتائج ضعف اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي لمصر وبعده
بالطبع وبالتأكيد وبالتوثيق: لا وألف لا. رَ مقالنا: هل فرض الحاكم بأمر الله اللغة العربية على الأقباط؟

كيف ولماذا ومتى ضعفت ثم ماتت اللغة القبطية؟ 

إن اللغاتَ تأخذ قرون حتى تموت موتها الأبدي، تضعف فتمرض فيشتد المرضُ حتى تُدفن من قِبل لغةٍ أو لغاتٍ أخرى.
وضعفُ ومرضُ وموتُ أي لغةٍ مرتبطٌ بضعفِ وهوانِ أصحابها ومدى تأثيرهم وتأثرهم.
وهذا ما حدث مع اللغةِ القبطيةِ؛ فقد بدأت ضعفها فمرضها ثم موتها قبل الفتح الإسلاميِ بعدةِ قرونٍ، عندما ضُعف أصحابها وأهينوا؛ فضعفت ثم ماتت موتها الأبدي.
ولذلك الضعفِ ثم هذا الموتِ أسبابًا متعددةً ومتجذرةً ومنطقيةً وواقعيةً؛ ولقد تحولت هذه الأسبابُ إلى نتائجٍ فأسبابٍ لاستمرارِ الضعفِ ثم الموتِ- أي أننا لا نستطيعُ الفصلَ بين الأسبابِ والنتائجِ- فإلى استعراضِ هذه الأسبابِ والنتائجِ:

الأسباب السياسية لضعف وموت اللغة القبطية

أ‌- الأسبابُ السياسيةُ:
لقرونٍ طويلةٍ كان الأقباطُ ضعفاءَ مستضعفينَ مهانين محتلين، يستلمهم محتلٌ من محتلٍ، ليس لديهم دولةً مركزيةً تحمي لغتهم وتبقيها، وليس لديهم تأثير خارجي؛ وكيفَ يكونُ لديهم قيمةً خارجيةً وهم بلا قيمةٍ داخل بلادهم.
واستخدمَ من يحكمون مصرَ لغاتهم في الإدارةِ بكافةِ مستوياتها؛ فنجدَ أن اليونانيةَ- مع وجودِ استخداماتٍ محدودةٍ للقبطيةِ وغيرها- كانت لغةُ الإدارةِ قبل الفتحِ الإسلامي، ثم بُدلت اليونانيةُ بالعربيةِ عام ٨٧ هجرية، أي أن القبطيةَ بعيدةٌ عن الرسمياتِ والرسميين.
لا بل أن الرومانَ سموا القرى والمدنَ بأسماءٍ يونانيةٍ، ثم جاءَ العربُ فسمحوا للأقباطِ باسترجاعِ أسماءِ قراهم ومدنهم بالقبطيةِ؛ فنجدَ فمثلًا: أخميم بدلًا من بانوبوليس وإهناسيا بدلًا من هيراكليوبوليس والأشمونيين بدلًا من هرموبوليس...
كان من يحكمون مصرَ ويحمونها طبقةً مميزةً موزعةً في القرى والمدنِ والأقاليمِ، وكان يُنظر إلى لغاتهم بأنها لغات مميزة ويُنظر إلى القبطيةِ نظرةً دونيةً؛ ولأن المغلوبَ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ؛ فقد تعلم جزءٌ من الأقباطِ لغاتهم وتحدثوا بها، سواء من بابِ المصلحةِ للحصولِ على الوظيفةِ أو لتسهيلِ المعاملاتِ أو من بابِ التقليدِ والترفعِ على القبطيةِ، وتثبتُ الدراساتُ تحدثَ جزءٌ لا بأسَ به من الأقباطِ لليونانيةِ.
ونؤكدُ بأن الأمرَ لم يكن مجرد تعلم لغة من أجل العملِ بل أن الاستخدام والتحدث بلغاتٍ أخرى كان للحصولِ على التميزِ المادي والمعنوي؛ لذلك تعلم الكثيرونَ اللغات الأخرى وورثوها وترفعوا على القبطيةِ ونسوها.
ولقد طالَ عهدُ سيادة اللغةِ اليونانيةِ ثم العربيةِ فتجذرتا وانتشرتا بين الأقباطِ تلقائيًّا دون إجبارٍ.
ولأن قوةَ اللغاتِ وحيويتها وبقاءها من قوةِ اصحابها ومكانتهم وتأثيرهم ماديًّا ومعنويًّا؛ فقد ضعفت القبطيةَ وهانت ومرضت ثم ماتت. للمزيد: كيف انتصرت اللغة العربية على اللغة القبطية؟

الأسباب الاقتصادية لـ ضعف ثم موت اللغة القبطية

ب‌- الأسبابُ الاقتصاديةُ:
كانت التجارةُ الخارجيةُ والداخليةُ والضرائبُ والنقلُ وحمايةُ المتنقلينَ والعملاتُ ومختلفُ الجوانبِ الاقتصاديةِ- ومتطلباتها وما يترتبُ عليها- بلغاتِ من حكموا مصرَ حتى اللغة اليونانية فاللغة العربية.
وكانت التجارةُ خارجَ مصرَ مع الأقوامِ الخاضعةِ للرومانِ ثم مع العربِ والشعوبِ الخاضعةِ لهم.
بينما كانت اللغةُ القبطيةُ لغةَ من ليس لهم علاقةً بالتجارةِ الخارجيةِ، ولغةَ من تأثيرهمُ ضعيفٌ في الاقتصادِ الداخلي.
ودفعت المصالحُ الاقتصاديةُ سواء العمل في الإدارةِ أو التجارةِ بمستوياتها جزءًا من الأقباطِ إلى تعلمَّ اليونانيةِ ثم العربيةِ وتوريثهما والترويجُ لهما.
وبُعد القبطيةِ عن عالمِ الاقتصادِ؛ أضعفها تدريجيًّا ماديًّا ومعنويًّا، وأفقدها حيويتها وقدرتها على البقاءِ والمنافسةِ؛ وأدى ذلك الضعفُ إلى المرضِ، ثم الموتُ الأبديُ.

الأسباب الدينية لضعف وموت اللغة القبطية

ت‌- الأسبابُ الدينيةُ:
والدينُ أحدُ أهم أسبابِ حيويةِ وبقاءِ اللغاتِ وانتشارها واحترامها، وبالنظرِ إلى القيمةِ الدينيةِ للقبطيةِ، نجدها بلا قيمةٍ لغويةٍ دينيةٍ حيثُ:
- التأثيرُ المحدودِ للأديانِ المصريةِ خارجَ حدودِ مصرَ قبل وصولِ الفرسِ، صحيحٌ أن من حول مصرَ تأثروا بالعقائدِ المصريةِ لكنه تأثرًا لم يدفعهم إلى تركِ لغاتهم واستخدامِ اللغةِ المصريةِ حتى في ممارسةِ الطقوسِ الدينيةِ.
- تأثرَ من سيطرَ على مصر بالأديانِ المصريةِ لكنهُ استخدم لغتهُ في ممارسةِ عقائدهِ مهما كانت درجةِ تأثرها بالعقائدِ المصريةِ، والدليلُ المعابدُ والمقابرُ الرومانيةُ وغيرها التي تملأ مصر وتستخدم لغاتٍ غير مصريةٍ.
- التعدد الديني داخل مصر أدى إلى تعددٍ لغوي ولم تكن القبطيةُ لغةً دينيةً مركزيةً بل أحدَ اللغاتِ الدينيةِ.
- تعلم جزءٌ من الأقباطِ لغات الأديانِ الأخرى؛ لأنهم آمنوا بتلكِ الأديانِ، وعمل بعضهم في خدمتها، أو من أبوابِ المنفعةِ وغيرها.
- بعد المسيحيةِ كانت اللغةُ اليونانيةُ هي المستخدمةُ في الطقوسِ والصلواتِ داخلَ الكنائسِ والتعليم الديني لدى كل المذاهبِ، ثم سمح العربُ للأقباطِ باستعمالِ القبطيةِ، ولا ننسى أن اللغةَ القبطيةَ تعرضت للاضطهادِ بعد دخولِ المسيحيةِ لمصرَ سواء قبل الاعترافِ بها أو فترة الاضطهاد المذهبي.
- لم تكن القبطيةُ يومًا لغةً دينِ يستوجبُ الإيمانُ به التعبدَ بها.
- جاءت اللغةُ العربية وهي: لغة الإسلامِ المتمتعةُ بالقوةِ الماديةِ والمعنويةِ، والتي يزيدُ عدد المتحدثينَ بها يومًا فيومًا؛ نتيجةَ إسلام المصريينَ من الأقباطِ وغيرهم، ونتيجةً لهجرةِ العربِ ومواليهم والمستعربينَ إلى مصرَ، وهي أيضًا لغةُ الحكامِ المسلمينَ؛ لتهزمَ القبطيةَ الضعيفةُ المهانةُ التي لا تمتلك أي قيمةٍ دينيةٍ حتى في أبسطِ الأمورِ.
إذًا القبطيةُ لا تأثيرَ ديني لها خارجَ حدود مصر، وفي الداخلِ المصري ضعيفةُ التأثيرِ، وينافسها لغاتٌ أخرى أكثر قوةً وحيويةً وقيمةً ماديةً ومعنويةً.
والنتيجةُ الحتميةُ لما سبقَ هي ضعفُ اللغةِ القبطيةِ فمرضها فاشتدادِ المرضِ عليها ثم موتها الأبديُّ.

الأسباب المرتبطة بالعلم لضعف ثم موت اللغة القبطية

ث‌- الأسبابُ المرتبطةُ بالعلمِ:
لم يكن للغةِ القبطيةُ أي مساهماتٍ في العلومِ سواءً قبلَ الفتحِ الإسلامي كما بينا في مقالنا: ضعفُ اللغةِ القبطيةِ قبلَ الفتحَ الإسلامي لمصرَ، أو بعد الفتحِ الإسلامي لمصرَ حتى داخل البلادِ.
كانت اللغةُ اليونانيةُ لغةُ العلومِ بتنوعِ مجالاتها، والآدابِ بمختلفِ أنواعها، داخل مصر بل ومحيطها، ومازال تأثير العلوم والآداب اليونانية حاضرًا في كل الدنيا.
أيضًا كانت اللغة السريانيةُ لغة للعلومِ في مصر بعد هجرةِ كثير من العلماءِ السريانِ إلى مصر وعملهم بالإسكندريةِ وغيرها.
ثم أصبحت العربيةُ اللغةُ الرئيسيةُ للعلومِ في ذلكَ الزمانِ تأليفًا وتعليمًا وترجمةً ونشرًا.
بينما اللغةُ القبطيةُ غائبةٌ عن العلومِ ولا مساهمةً تذكرُ لها في ذلك، ولغةٌ بلا علمٍ هي لغةٌ بلا قيمةٍ معنويةٍ أو ماديةٍ، لغةٌ بلا روحٍ تجددُ حياتها، لغةٌ بلا رونقٍ ودون فائدةٍ تدفعُ الناس إلى تعلمها، لغةٌ لن يُترجم منها أو إليها، لغةٌ هجرها جزءٌ من أهلها لأنها بلا قيمةٍ علميةٍ لهم؛ إذًا فهي لغةٌ مريضةٌ في طريقها إلى قبرها الأبديُ وهو ما كانَ.

الأسباب المرتبطة بالإنتاج الأدبي لضعف ثم موت اللغة القبطية 

ج‌- الأسبابُ المرتبطةُ بالآدابِ:
بينما كانت اليونانية لغةً للآدابِ الجذابةُ داخلَ مصرَ بل وفي جزءٍ كبيرٍ من العالمِ، الآدابُ التي مازال لها صدى في العالمِ الحديثِ بمميزاتهِ وعيوبهِ.
ثم كانت العربيةُ اللغةُ الخصبةُ الغنيةُ والغزيرةُ الإنتاجِ لصنوفِ الآدابِ داخل مصر وخارجها بل وفي العالمِ، يُؤلف بها، ويُترجمُ منها وإليها، ويتعلمها الكثيرُ حبًّا في آدابها الراقيةُ.
لم يتوفر للقبطيةِ أيُ مساهمةٍ في المجالاتِ الأدبيةِ؛ وعدم الكتابةِ والقراءةِ أو الاستماعِ لقصصٍ وحكاياتٍ وشعرٍ وخطبٍ... قيمةٍ سيؤدي حتمًا إلى نهايةِ هذه اللغةِ، وهو ما صار حتمًا للقبطيةِ.
يقول بتلر في كتابهِ " فتح العرب لمصر": " لا يستطيعَ الأقباطُ أن يفخروا بشعراءٍ مجيدينَ أو مؤرخينَ معروفينَ أو فلاسفةً أو أحدًا من رجالِ العلمِ فجل آدابهم دينيةً لقلةِ ما كان لديهم من بيانٍ وعلمٍ مما سبب إهمال لغتهم"
ويقول الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر أستاذ علم اللغة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة في كتابه " تاريخ اللغة العربية في مصر والمغرب الأدنى" ص ٤١:
" لم يجد الباحثون شيئًا ذا قيمةٍ يستحقُ الترجمةَ من القبطيةِ إلا ما يتعلقُ بالديانةِ ولم تتم الترجمةُ له سوى في القرنِ العاشرِ، والأدبُ القبطي لم يكن أدبًا راقيًا بل قصصًا دينيةً ركيكةً، ومن أجل هذا حين جاءت حركةُ الترجمةِ النشيطةِ من اللغاتِ الأجنبيةِ إلى اللغةِ العربيةِ وبلغت قمتها لم يجد الباحثونَ شيئًا ذا بالٍ يستحقَ الترجمةَ من القبطيةَ إلا ما ندر". اطلع على: ثوابت إعرابية في النحو- الجزء الخامس

الأسباب المرتبطة بالانتشار الجغرافي لضعف واللغة القبطية

ح‌- الأسبابُ الجغرافيةُ:
والانتشارُ الجغرافيُ للغةٍ ما يمنعُ ضعفها الكليُ، فقد تضعف لفترةٍ ما في منطقةٍ وتقوى في أخرى ثم تستعيدُ صحتها وحيويتها في مكانِ الضعفِ لتعم قوتها في كل أماكنِ انتشارها وربما تتوسع خارجَ مناطقها القديمةِ.
وبينما اللغةُ اليونانيةُ واسعةَ الانتشارِ في العالمِ بحيويةِ وجاذبيةِ، يسعى إليها الناسُ قبل أن تسعى إليهم، وكانت مصر وأقباطها جزءًا من هذا العالمِ؛ لذلك انتشرتُ اليونانيةُ في مصرَ بين الأقباطِ، بل إن بعضهم ترك غيرها، لما وجدوا فيها من فوائد ومنافع.
ثم أصبحت العربيةُ منتشرةً في ثلاثِ قاراتٍ ويسعى إلى تعلمها الكثيرون من مختلفِ الشعوب لأسبابٍ كثيرةٍ منهم الأقباط بالطبعِ.
لم تكن القبطيةُ معروفةً أو لها استعمالٌ خارجَ مصرَ، بل إنها لم تكن اللغةُ الغالبةُ في كل مصر، فقد نافستها اليونانيةُ حتى وصلت إلى مستوى التخاطبِ لدى جزءٍ كبيرٍ من الأقباطِ، كذلك دخلت في المنافسةِ السريانيةُ والعربيةُ والفينقيةُ وغيرها من اللغاتِ للشعوبِ المصريةِ، ثم عمت العربيةُ بعد الفتحِ لتحصرها في مناطق نائيةٍ.
وعدم وجودِ القبطية خارج مصر، وعدم وجودها لوحدها داخل مصر، ووجود منافساتٍ يتمتعن بالجاذبيةِ والحيويةِ لا سيما اليونانيةُ ثم العربيةُ؛ نتج عنه النتيجةُ الطبيعيةُ وهي موت اللغة القبطية موتها الأبدي.

الأسباب المتعلقة بوحدة اللغة القبطية ومركزيتها 

خ‌- الأسبابُ المتعلقةُ بوحدةِ اللغةِ ومركزيتها:
بينما اللغةُ اليونانيةُ لغة مركزية بوجودِ دولٍ مركزيةٍ ترعاها، وعلومٍ وآدابٍ يُنتفعُ بها، وأناسُ يطمحون في تعلمها.
ثم كانت العربيةُ لغةً مركزيةً بوجودِ القرآنِ والسنةِ والشعرِ والآدابِ والعلومِ وبوجودِ دولةٍ مركزيةٌ لغتها العربيةُ.
صحيحٌ أن للعربيةِ لهجاتٌ متعددةٌ أثرت في لهجاتِ مصر وحددت ملامحها - كما يتبين في مقالنا: كيف نشأت اللهجةُ العربية المصريةُ الحديثة – فإن وجودَ الموحداتِ المركزيةُ السابق ذكرها حافظَ على وحدتها المركزية، ولم يحدث لها كما حدثَ لغيرها من الانقسامِ إلى لغاتٍ مختلفةٌ.
لم يتوفرْ للقبطيةِ الوحدةُ المركزيةُ المانعةُ للانشطارِ؛ فقد كان لها ستُ لهجاتٍ بينها اختلافاتٌ جوهريةٌ في الصوتياتِ والمفرداتِ والنحوِ والصرفِ، أربعةً في مصر العليا ( الفيومية- الأسيوطية- الأخميمية- الصعيدية) وبعد القرنِ الخامسِ الميلادي أصبحت الأخيرةُ هي السائدةُ في مصرَ العليا، واثنان في مصرَ السفلى ( البشمورية - البحيرية).
ومع عدمِ وجودِ عاملٍ مركزيٍ موحدٍ لتلكِ اللهجاتِ كالقرآنِ والحديثِ للعربية أو وجودِ العاملِ السياسي كوجودِ دولةٍ مركزيةٍ للأقباطِ، ومع اختلاف التأثيراتِ على الجغرافيا المصرية حيث النوبة والبجه والعربِ- عرب ما قبل الفتح- في جنوبها والبربر في غربها والعرب والساميون في شرقها والأوربيون في شمالها؛ فإنها كانت ستنفصلُ لتكوَّن كل منها لغةً مستقلةً كما حدث مع غيرها من اللغاتٍ، حدث الفتح الإسلامي أم لم يحدث.
واختلاف اللهجات اختلافات جذرية سيدفع إلى موت اللغة الأصلية بدون وجود كثيرًا من المؤثرات الخارجية.

الأسباب المرتبطة بالنظرة إلى اللغة القبطية واحتقارها

د‌- الأسبابُ المرتبطةُ بالنظرةِ للغة واحترامها أو احتقارها:
بينما كان يُنظر إلى اللغةِ اليونانيةِ نظرةِ احترامٍ ومهابةٍ من أهلها ومن الناطقينَ والمستخدمينَ لها دولًا وشعوبًا وأفرادًا، والأدلة على ذلك كثيرةٍ منها ما ذكرناه سابقًا، ومنها: اهتمام اليونانيين بالدراسات للغتهم وتدريسها ونشرها، أيضًا استخدامها من دولٍ وشعوبٍ وأفرادٍ للحياةِ ومجالاتها المختلفة...
وبينما كان العربُ ينظرون إلى لغتهم نظرةَ توقيرٍ وإجلالٍ لاستقلالها وكرامتها ثم نزولَ القرآنِ الكريمِ بها، وانتشارها واستخدامها للعلومِ والآدابِ، وتحقق مكانة رفيعةً لها...
كان الأقباطُ ينظرونَ إلى لغتهم نظرةً دونيةً، ويوهنون لغتهم لهوانها وهوانهم لقرونٍ طويلةٍ؛ ففضل جزءٌ منهم التحدثَ باليونانيةِ وتعلمها والنظر باستحقارٍ للغةِ قومهم، وأخذوا الكثيرَ من اليونانيةِ والسريانيةِ سواءً في المفرداتِ أو الأصواتِ ولا ننسى أنهم كتبوا لغتهم بالأبجديةِ اليونانيةِ مع سبعِ رموزٍ فقط من أبجديتهم القديمةِ.
وحدث هذا أيضًا منهم مع العربيةِ فقد تحول جزءٌ منهم إلى التحدثِ بها للحصولِ على المنافعَ والمصالحَ، ثم كتبوا قبطيتهم بالأبجديةِ العربيةِ ثم تحولوا إلى كتابةِ دينهم ولغتهم باللغةِ العربيةِ، وأيُّ ضياعٍ وهوانٍ من تكتب قواعدَ لغتك بلغةٍ أخرى للمزيد: مراحلُ موت اللغةُ القبطيةُ موتها الموت الأبدي.
ولم يقم الأقباطُ بأي جهدٍ حقيقيٍ للحفاظِ على لغتهم وبقاءها، ومن الطبيعي ألا يفعلوا ذلك لأنهم أنفسهم مهانين مستضعفين أذلاء.
وإذا كان أصحابُ اللغةِ ينظرونَ إليها هكذا فما بالنا بنظرة سكانَ مصرَ من الشعوبِ الأخرى إليها.
والنظرةُ الدونيةُ للغةٍ من أصحابها ستؤدي إلى نهايتها؛ حيث البراء منها وعدم تعليمها وتعلمها وعدم النشر بها أو الترجمة منها وإليها...؛ إذًا يحكمون على لغتهم بالموتِ وهو ما كان.

اندماج أصحاب اللغات الوافدة مع المتحدثين باللغة القبطية

ذ‌- مدى اندماجُ أصحابُ اللغةِ الوافدةِ مع أصحابِ اللغةِ الأصليةِ وطريقةُ تعاملهم معهم:
انتشر الرومان وحلفائهم في الأرياف والمدن المصرية بدليل ِكم المعابدِ والمقابرِ الرومانيةِ المنتشرةِ في النواحي المصرية، لكنه كان انتشارًا محدودًا لقلةِ عددهم مقارنةً بالمصريين ولانعزالهم اجتماعيًا لحدٍ كبيرٍ.
أما اللغةُ العربيةُ فقد قواها الانتشارُ اللامحدود للعربِ ومواليهم والمستعربينَ ( البربرُ- الأتراكُ- الأكرادُ- الأوربيونَ- الأفارقةُ...) في الأريافِ والمدنِ المصريةِ ومخالطتهم للأقباطِ وغيرهم من شعوبِ مصر وكانت معاملةُ العربِ والمستعربينَ حسنةً وراقيةً مع الأقباطِ فساهم ذلك في تقبلِ الأقباطِ للغتهم والتحدثُ بها.
وزادَ اندماجُ العربِ بغيرهم في مصر بعدما أسقطهم الخليفةُ العباسيُ المعتصم من الديوانِ فانتشروا في الأريافِ والمدنِ، وعملوا في مختلفِ المهنِ وعلى رأسها الزراعةُ ونسي الكثيرُ منهم أنسابهُ أي أنهم عربوا وتمصروا.
وإسقاطُ العربِ من الديوانِ أضعفَ نفوذَ العربِ السياسي وقوى نفوذهم الاجتماعي ِوبالتالي نفوذَ لغتهم.
وكانت نظرةُ الأقباطِ للعربِ نظرةَ هيبةٍ وتقديرٍ بسببِ عواملَ القوةِ المعنويةِ والماديةِ التي توفرت للعربِ، وأيضًا لحسن معاملةِ العربِ للأقباطِ، وبالتالي نظرةَ الهيبةِ والاحترامِ للغةِ العربِ.
وكان العربُ هم الغالبونَ سياسيًا واقتصاديًا ومع انتشارِ الغالبينَ في القرى والمدنِ قلدهم المغلوبونَ في لغتهم، حيثَ أن المغلوبَ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ.
وازداد ضعف اللغة القبطية حتى ماتت الموت الذي لا صحو منه.

ضعف هيبة اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي وبعده

ر‌-الذاتية أو الهيبة:
ويُعنى به قوةُ اللغةِ وتأثيرها ودورُ المتحدثينَ بها وقوتهم الماديةِ والمعنويةِ.
وقد تحقق لليونانيةِ قدرًا كبيرًا من الهيبةِ الناتجةِ عن دورها السياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي...
وقد تحقق للعربيةِ أيضًا عوامل هيبة عديدة منها:
- لغةُ الحكامِ والإدارةِ والقيادةِ، بينما القبطيةُ لغةُ المحكومينَ المغلوبينَ.
- لغةُ العربِ وهم الطبقةُ الارستقراطيةُ في البلادِ وهم الغالبونَ ماديًّا ومعنويًّا والمغلوبُ مولعٌ بتقليدِ الغالبِ وظلَ العربُ كذلكَ حتى كثروا في البلادِ فاندمجوا مع أهلها وصار الكل عربًا.
- لغةُ الإسلامِ وهو دينُ الحكامِ وجزءٍ من المحكومينَ صارَ يتزايدُ عددهم حتى أصبحوا أغلبيةً لأولِ مرةٍ في عام ٢١٧ هجريةٍ حسبَ ماك مايكل في كتابهِ " تاريخ العرب في السودان".
- منتشرةٌ في ثلاثِ قاراتٍ وسريعةُ الانتشارِ بينما القبطيةُ سجينةَ الوادي والدلتا
- لغةُ لعلومِ وقتها وما تبعَ ذلكَ من التعلمِ بها والنقلِ والترجمةِ منها وإليها والنشرُ بها.
- لغةُ الاقتصادِ والتجارةِ بالمنطقةِ المحيطةِ ولها تأثيرٌ في الاقتصادِ العالمي وقتها.
- لغةٌ حيةٌ غزيرةُ الإنتاجِ للآدابِ بكافةِ أنواعها ويُترجمُ منها وإليها بينما القبطية فقيرةُ الإنتاجِ الأدبي بل قد يكونُ إنتاجها الأدبي معدومًا ولا مساهمةً لها في الأدبِ العالمي.
وبينما كانت اللغةُ العربيةُ تتمتعُ بكلِ عناصرِ القوةِ الذاتيةِ كانت القبطيةُ تعاني من كل آثارِ الضعفِ والهوانِ.
ووجود لغةٍ مهانةٍ ذليلةٍ في صراعٍ مع لغةٍ مهابةٍ كريمةٍ؛ سيؤدي حتمًا إلى انتصارِ الأخيرة، ومقتل الأولى ودفنها.

درجة القرابة بين اللغة العربية واللغة القبطية

ز‌- درجةُ القرابةِ بين اللغتينِ:
فكلما قويت القرابةُ زادت فرصةُ انتصارِ إحداها على الأخرى، وكلما بعدت ضعفَ احتمالُ انتصارِ إحداها على الأخرى.
ولم يتحقق هذا لليونانيةِ لكنه كان موجودًا في العربية، فالعربية والقبطية من نفسِ العائلةِ الأفروآسيويةُ، وهذا قرب من هزيمةِ القبطيةِ وانتصارُ العربيةِ عليها؛ حيث تقارب الصوتيات والتراكيب والقواعد وكثير من المفرداتِ.
س‌- عددُ المتحدثينَ بكلِ لغةٍ:
لم تتحقق الغلبةُ العدديةُ للرومانِ وحلفائهم من الشعوبِ الأخرى، ولم يزد عددهم عن عددِ الأقباطِ.
لكنه تحقق لأصحابِ العربيةِ؛ حيث كان عددُ المسلمينَ يتزايدُ يوميًا حتى صاروا أغلبيةً لأولِ مرةٍ عام ٢١٧ هجريةَ حسب ماك مايكل في كتابهِ : " تاريخُ العربِ في السودانِ".
وكانت أسبابُ زيادةِ عددَ المسلمينَ كالآتي:
أ‌- دخولُ الأقباطِ وغيرهم من المصريينَ* في الإسلامِ تدريجيًا؛ والدليلُ على ذلكَ تناقص المتحصلِ من الجزيةِ في القرنِ الثالثِ الهجري عنه في القرنينِ السابقينِ.
وغالبًا أن من سيدخلُ الإسلامَ سيتعلمُ العربيةَ وسيرثها أبناءهُ وأحفادهُ.
ب‌- زيادةُ هجراتِ العربِ إلى مصر: ويقصدُ بالهجراتِ العربيةِ هنا هجراتِ العربِ ومواليهمِ والمستعربينَ من غير الموالي، والهجراتُ العربيةُ إلى مصر بدأت قبل الميلادِ حتى النصفِ الأولِ من القرنِ العشرينَ.
وقد عدَّ الأستاذُ الدكتورُ/ عبد الله خورشيد البري في كتابهِ الوثائقيُ: " القبائلُ العربيةُ في مصر في الثلاثِ قرونِ الأولى من الهجرةِ" هجرةُ ٢٤٤ بطنًا من قبائل عربيةٍ إلى مصر في الثلاثِ قرونِ الأولى من الهجرةِ، منها ١٧٢ بطنًا من قبائل قحطانيةٍ، والباقي من قبائل عدنانيةٍ، وربما يفسرُ هذا اقترابُ اللهجةِ المصريةِ من اللهجةِ اليمنيةِ.
وقد أحصى ماك مايكل هجرةَ ٣٣ قبيلةً عربيةً إلى مصر بين عامي ١٣٣ ه إلى ٢٤٢ه.
أثبتَ البريُ كذلك أن عددَ العربِ تزايدَ ٧ أضعافٍ في القرنِ الأولِ الهجري بسببِ الهجرةِ والزواجِ المتعددِ للعربِ من زوجاتٍ من الأقباطِ والنوبيينَ والبجه وغيرهم، كذلك وجودُ ملكِ اليمينِ لدى جزءٍ كبير منهم، وساهمَ في هذا الوضعُ الاقتصاديُ للعربِ حيث العطاءُ من الديوانِ والتجارةِ والعملِ بالحراساتِ، وجل هذه القبائلِ اندمجت مع المصريينَ من مختلفِ الأعراقِ فعربت وتمصرت ونست أنسابها، وبقي بعضًا منها محتفظًا بنسبهِ مع من هاجرَ من العربِ في عصورٍ أحدثٍ، وقد ذكرَ المقريزيُ في كتابهِ: " البيانُ والإعرابُ عما في أرضِ مصر من الأعرابِ" أن القبائلَ التي دخلت مصر في القرونِ الأولى قد أهلكها الدهرُ أي نست أنسابها...إلخ. تعرف على: أجمل أسماء البنين والبنات- آلاف الأسماء ومعانيها
ت‌-هجراتُ المستعربينَ إلى مصر أفرادًا وجماعاتٍ: ويقصدُ بهم هنا أبناءُ الشعوبِ مثل البربر والترك والأكراد والأحباش والأوربيين والزنوج والأرمن..- الذين تعلموا العربيةَ وتحدثوا بها سواءً تم التعريبُ خارجَ مصرَ أو داخلها.
والأمثلةُ على ذلك كثيرةً جدًا ومنها الهجراتُ القادمةُ من شمالِ أفريقيا كهجرةِ قبائل لواتة مثلًا التي انتشرت في الأريافِ المصريةِ، واختلطت بأهلها من الشعوبِ الأخرى وقد سُمي على بطونِ لواتة قرى ومدنًا في الواديِ والدلتا مثل مركز مغاغة ومركز بني مزار بمحافظة المنيا وقرى كثيرةً أخرى في المركزينِ وغيرهما.
ث‌-هجراتُ الأقباطِ إلى خارجِ مصرَ، إلى الدولةِ البيزنطيةِ والسودان والحبشة لأسبابٍ عدة منها السببُ الدينيُ.
وبالنظرِ إلى جميعِ العواملِ السابقةِ نجدُ أنها كانت لصالحِ اللغةِ العربيةِ وضد القبطيةِ؛ لذلك انتصرت العربيةُ وبقت وهُزمت القبطيةُ وانتهت.

الفترة الزمنية الطويلة التي سادت فيها أسباب ضعف اللغة القبطية

ش‌- الفترةُ الزمنيةُ التي يسودُ فيها بعض أو كل الأسبابِ السابقةِ:
وحكم الرومانُ ومن قبلهم مصر لقرونٍ طويلةٍ واستعملت لغاتٌ متعددةٌ؛ أضعف وجودها واستخدامها القبطيةَ، لا سيما مع امتلاك اليونانيةِ وغيرها مميزات ذاتية وخارجية.
وبقت السيطرةُ للعربِ دون غيرهم على الحكمِ والاقتصادِ لقرونٍ عدةٍ ثم حكمَ المستعربينَ بالاستعانةِ بالعربِ، ومازال وسيظل الإسلامُ والذي لغته العربيةُ دينًا للبلادِ إلى الأبدِ بإذنِ اللهِ.
وبينما العواملُ السابقةُ جميعها في صالحِ اللغةِ العربيةِ لقرونٍ، فقد كانت نفسُ العواملِ ضد القبطيةِ لقرونٍ.
إذًا نستخلصُ مما سبقَ أن العربَ لم يجبروا أحدًا من الأقباطِ على تعلمِ العربيةِ والتحدثِ بها، بل فرضت العربيةُ نفسها لقوتها الماديةُ والمعنويةُ الناتجةُ عن قوتها الذاتيةُ وقوةِ أصحابها المعنويةُ والماديةُ والعدديةُ، وضعفُ القبطيةِ بدأ قبلَ الفتحِ الإسلامي، وهزيمتها كانت مسلمٌ بها لما ذكرناهُ من عوامل وأسبابٍ متعددةٍ متنوعةٍ.
وغايةُ المنى أن يمتنعَ أصحابُ الأكاذيبِ عن التضليلِ والتدجيلِ تجنبًا لشري الدنيا والآخرةِ.
ومن لا يمتلك دليلٌ قطعيُ الثبوتِ قطعيُ الدلالةُ على فرضِ العرب للعربيةِ على الأقباطِ أن يصمت.
* يقصد بالمصريين هنا: المصريون بمختلف أصولهم، فعند دخول العرب لمصر كان يعيش بها عدةُ شعوبٍ ولهم لغاتهم الخاصةِ مثل ( الأقباط- البربر- الفينيقيين- الديلم- الأكراد- الأحباش- اليونانيون- السريان...) فمثلًا يتحدث استرابوا المؤرخُ الرومانيُ أن مدينةَ قفط نصفُ عربيةٍ وأن العرب يحكمونها، كذلك اثبتت الدراساتُ وجودَ جالياتٍ عربيةٍ تتحدثُ العربيةَ في أماكنَ مختلفةً من مصر، أيضًا كان بالإسكندريةِ أعراقٌ مختلفةٌ، ويتحدثون لغاتٍ عدةٍ رئيسيتها اليونانيةُ....إلخ. ابن عبد الحكم: فتوح مصر- وغيره الكثير من المصادرِ.
نتمنى أن نساهم في تقديم ما يفيد للباحثين عن موضوعات تخص:
اللغة القبطية.
متى نشأت اللغة القبطية؟ وكيف نشأت؟
اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي لمصر.
اللغة القبطية واللغة اليونانية.
تأثير اللغة اليونانية على اللغة القبطية.
علاقة اللغة القبطية باللغة المصرية القديمة.
لهجات اللغة القبطية الصعيدية والأخميمية والبحيرية والبشمورية والفيومية.
العرب واللغة القبطية.
حال اللغة القبطية بعد الفتح الإسلامي لمصر.
الوليد بن عبد الملك بن مروان واللغة القبطية.
المأمون واللغة القبطية.
الحاكم بأمر الله واللغة القبطية.
الحملة الفرنسية واللغة القبطية.
أسباب ضعف اللغة القبطية.
المراجع:
1- أحمد مختار عمر: قصة اللغة العربية في مصر.
2- سيدة إسماعيل الكاشف: مصر في فجر الإسلام.
3- المقريزي: الخطط ج١.
4- المقريزي: البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب.
5- لجنة التاريخ القبطي: تاريخ الأمة القبطية، الحلقة ٢، خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ١٣٧ طبعة ١٩٣٢، المطبعة الحديثة شارع خيرت.
6- ماك مايكل: تاريخ العرب في السودان ج ١ ص ١٦٣. Macmichael: A Hit Of the Arabs in the Sudan
7- ألفرد بتلر: فتح العرب لمصر، ترجمة محمد فريد أبو حديد، دار الكتب.
8- حسن أحمد محمود : مصر في عهد الطولونيين.
9- عبد الله خورشيد البري: القبائل العربية في مصر في الثلاث قرون الأولى من الهجرة.

جمال الغريدي
جمال الغرِّيدي
جمال الغرِّيدي