📁 من موضوعاتنا

مراحل موت اللغة القبطية موتها الأبدي

كما سبق أن رأينا ضعفَ اللغةِ القبطيةِ قبل الفتح الإسلامي لمصر، وعرفنا كيف انتصرت اللغةُ العربيةُ على اللغةِ القبطيةِ؟ سنعرض في مقالنا هذا مراحلَ انتهاءِ اللغةِ القبطيةِ وموتها الموتَ الأبدي.
مراحل موت اللغة القبطية موتها الأبدي
مراحل موت اللغة القبطية موتها الأبدي
بالتأكيدِ إن القبطيةَ لم تمت فجأةً ولا يمكن للغةِ أن تموت فجأةً بل تظلُ تمرضُ ويزدادُ المرضُ ويشتدُّ حتى يقتلها تمامًا وهو ما حدث مع القبطيةِ في مصر.
لقد بدأ ضعفُ القبطيةِ قبل دخولِ الإسلامِ مصرَ بقرونٍ ثم جاءت اللغةُ العربيةُ بما تملكهُ من عناصرِ القوةِ الماديةِ والمعنويةِ لتودعَ القبطيةِ إلى حيث لا عودة.
يقسمُ الدكتورُ أحمد مختار عمر أستاذُ علمِ اللغةِ بكليةِ دارِ العلومِ بجامعةِ القاهرةِ في كتابهِ: " قصة اللغة العربية في مصر والمغرب الأدنى" 
مراحلَ انتهاءَ القبطيةِ وموتها الأبديُ إلى عدةِ مراحلِ:

مراحل موت اللغة القبطية موتها الأبدي

أولًا-

موت اللغة القبطية كلغةٍ رسميةٍ في الدواوينِ والإدارةِ

وكما سبقَ أن ذكرنا أن اللغةَ الرسميةَ كانت هي اللغةُ اليونانيةُ مع وجودِ تراجمَ أحيانًا قبطيةٍ وعربيةٍ في داخلِ البلادِ، وقد تم التعريبُ الكليُ للإدارةِ في عام ٨٧ هجرية وصارت العربيةُ هي لغةُ الإدارةِ والحكمِ. رَ مقالنا: الحاكم بأمر الله واللغة القبطية
والتعريبُ للدواوينِ والإدارةِ لم يرفضهُ الأقباطُ فقد نقلوا أنفسهم من اليونانيةِ إلى العربيةِ حتى يستمروا في وظائفهم، وفي ذلكَ يقولُ جاك تاجر في كتابهِ " أقباط ومسلمون": " ولم تؤد حركةُ التعريبِ إلى أي تذمرٍ أو احتجاجٍ من الأقباطِ إذا كان التعريبُ انتقالًا من لغةٍ أجنبيةٍ هي اليونانيةُ إلى لغةٍ أجنبيةٍ أخرى هي العربيةُ، وكما تعلمَّ الأقباطُ اللغةُ اليونانيةَ واستعملوها في الدواوينِ وهي ليست لغتهم فلماذا لا يتعلمون العربيةَ ويستعملونها في الدواوينِ بدلًا منها وهي لغةُ المنتصرينَ ولغةٍ سوف تفتحَ أمامهم أبوابِ الرزقِ"
لم يكن القرارُ عدائيًّا ضد القبطيةِ لأنها ليست المقصودةُ بالقرارِ، لكن هذا القرار كان سببًا في بدء انتشارِ اللغةِ العربيةِ؛ حيث بدأ الأقباطُ وغيرهم في تعلمها، ومع انتشارِ العربِ والمستعربينَ ومن تعلموا العربيةَ في الإدارةِ في القرى والمدنِ؛ بدأ انتشارها في المحيطينَ بينهم، ومن الساعينَ للالتحاقِ بالإدارة وأعمالها.

ثانيًا- موت اللغة القبطية كلغةٍ للثقافةِ:

وقد انتهت اللغةُ القبطيةُ كلغةٍ للثقافةِ – مع أن وجودها كان ضعيفًا بفعلِ وجودِ اليونانيةِ والسريانيةِ فالعربيةِ- في القرنِ الرابعِ الهجريِ بأدلةٍ منها:
- كتابةُ الأقباطِ لكتبهم الدينية واللغوية ( تخيل أن تكتب قواعدَ لغةٍ بلغةٍ أخرى) والتاريخيةُ بالعربيةِ وهذا يعني أن من يُكتب له لا يعرف غيرها- أي العربيةُ- أو يعرفُ غيرها كلغةٍ ثانيةٍ منطوقةٍ غالبًا لا مكتوبةً.
وقد كتبَ بالعربيةِ رجالُ الدينِ والعلماءَ المشهورينَ كالقديسِ الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين وسعيد بن بطريق، ولا يُعرف لهم كتبًا بغير العربيةِ.
ويقولُ ساويرس بن المقفعِ في كتابهِ المشهورِ الأهم في التاريخِ القبطيِ "سير الآباء البطاركة":
" فاستعنتُ بمن أعلمُ استحقاقهم من الإخوةِ المسيحيينَ وسألتهم مساعدتي على نقلِ ما وجدناه منها ( يعني سير الآباء البطاركة) بالقلمِ القبطيِ واليونانيِ إلى القلمِ العربيِ الذي هو اليومُ معروفٌ عند أهلِ هذا الزمانِ بإقليمِ ديار مصرَ لعدمِ اللسانِ القبطيِ واليونانيِ من أكثرهم"
إذًا كلامُ القديسِ ساويرس بن المقفع دليلًا على أن أغلبِ أهلِ مصرَ لم يعدوا يعرفون القبطيةَ وأن اللغةَ العربيةَ هي السائدةُ.
ووجبَ التأكيدُ هنا على أن كلامَ الأنبا ساويرس دليلٌ قطعيُ الثبوتِ قطعيُ الدلالةِ على أن الحاكمَ بأمرِ اللهِ الفاطميُ لم يفرض اللغةَ العربيةَ على الأقباطِ حيثُ أن الأنبا ساويرس بن المقفع قد تُوفي في عامِ ٩٨٧م بينما تولى الحاكمُ بأمرِ اللهِ الفاطميُ حكمَ الدولةِ الفاطميةِ في عامِ ٩٩٦م أي بعد وفاةِ الأنبا ساويرس بن المقفع بتسعِ سنوات ( بل إن الحاكم بأمر الله كان عمره سنتان عند وفاة ساويرس بن المقفع)، مع العلمِ أن القديسَ ساويرسَ قد كتبَ كتابهُ قبل وفاتهِ بسنواتٍ طوالٍ*.
- كتابةُ قواعدَ اللغةَ القبطيةِ باستخدامِ اللغةِ العربيةِ ( تخيل أن تكتبَ قواعدُ لغةٍ بلغةٍ أخرى) فهذا دليلٌ على أن القبطيةَ منتهيةٌ على المستوى العامِ، بل وأُتبعَ التقسيمُ العربيُ في النحوِ برغمِ الاختلافِ بين اللغتينِ وكانت الأمثلةُ في هذه الكتبِ عربيةٌ ثم ينتقلَ ليبينَ القاعدةَ القبطيةَ. تعرف على: ثوابت إعرابية في النحو- الجزء السادس
ومن أمثالِ من كتبَ في اللغةِ أبو شاكر بطرس ابن الراهب وأبو الفضائل، ومكين.
وكانت مؤلفاتُ النحاةِ القدامى كإخوة العسالِ وابن كبر للقبطيةِ كانت تهدف إلى تعليمِ الشعبِ فهم بعضَ الطقوسِ الكنسيةِ وليس تعليمهم لغةً للحياةِ.
- كتبَ ميخائيلُ السوريُ عن جبرائيلِ الثانيُ ( من بطاركةِ اليعاقبةِ، ١١٣١ - ١١٤٦ م ) يقولُ: " إنه كانَ بارعًا في اللغةِ العربيةِ وخطها، ولما رأىَ أن الشعبَ المصريَ يتكلمُ اللغةَ العربيةَ ويكتبُ بها نظرًا لطولِ عهدِ السيادةِ العربيةِ اهتم بترجمةِ التوراةِ والإنجيلِ إلى العربيةِ، وكذلكَ بقيةَ كتبَ الطقوسَ الدينيةَ الأخرى ليستطيعَ الشعبَ فهمها"
- إن آخرَ محاولةٍ بُذلت لإحياءِ اللهجةِ القبطيةِ الصعيديةِ تمت في القرنِ العاشرِ الميلاديِ حيث ظهرت مؤلفاتٌ كثيرةٌ اشتملت على الإنجيلِ وسيرَ القديسينَ والشعائرِ الدينيةِ ثم لم تتم محاولاتٌ بعد ذلكَ.

ثالثًا- موت اللغة القبطية كلغةٍ للتخاطبِ

ويقصُد بذلكَ أنها كانت موجودة كلغةٍ للتخاطبِ بين بعضِ الأقباطِ خصوصًا في المناطقِ المنعزلةِ.
والجديرُ بالذكرِ أن عددَ المسلمينَ زادَ وصاروا أغلبيةً منذ عامِ ٢١٧ ه كما يدلل ماك مايكل في كتابهِ: " تاريخُ العربِ في السودانِ" وبالتالي العربيةُ صارت لغةَ الأغلبيةِ التي تزدادُ يومًا بعد يومٍ.
وقد بدأ التلاشيُ النهائي لها- كلغةِ تخاطب منطوقة محدودة- حيث أنها كلغةٍ مكتوبةٍ قد انتهت من زمنٍ طويلٍ- في القرنِ الخامسِ الهجريِ ( الحادي عشر الميلادي) حيث أن:
1- العظاتُ في الكنائسِ كانت تلقى بالعربيةِ في القرنِ الرابعِ الهجريِ حتى يفهمها المصلونَ والمراجعُ التاريخيةُ تذكرُ ذلكَ.
وفي هذا دليلٌ على أنها- أي العربية- المستخدمةُ في الشارعِ والسوقِ والحقلِ وكل مكانٍ فقد وصلت لداخلِ الكنائسِ. 
اقرأ: قانون حماية اللغة العربية في ليبيا
2- أبو صالح الأرمني أشارَ في القرنِ السادسِ الهجريِ إلى أن المثقفينَ فقط هم من يعرفونها. 
واستمرت بعد ذلكَ لعقودٍ في بعضِ المناطقِ النائيةِ في الصعيدِ.

رابعًا- موت اللغة القبطية داخلُ الأديرةِ وبين الرهبانِ:

يقولُ الدكتورُ أحمد مختار عمر:
" أما داخل الأديرةِ وبين الرهبانِ فنحن نتوقعَ أن يوجدَ بعضُ من كانوا يتكلمونَ القبطيةَ لمدةٍ أطولُ، على أن العربيةَ قد دخلت الأديرةَ منذُ القرنِ الأولِ للفتحِ حيث ذكرَ بعضَ المؤرخينَ أنهُ لم يمض قرنٌ على الفتحِ حتى اضطرَ بعد الرهبانِ إلى أن يلجئوا إلى المترجمينَ لقراءةِ النصوصِ القبطيةِ.
- عُثرَ في بعضِ الأديرةِ على مخطوطاتٍ قبطيةٍ قديمةٍ مليئةٍ بحواشٍ وإضافاتٍ باللغةِ العربيةِ مثبتةٌ على جوانبِ المخطوطاتِ، ومعنى هذا أن معظمَ الرهبانِ ورجال الدينِ كانوا قد تعلموا القبطيةَ كلغةٍ ميتةٍ أو لغةٍ ثانيةٍ، وأنهم كانوا يفضلونَ إثباتَ تعليقاتهم بلغتهم الأولى، وهي العربيةُ.
- عددُ الكتبِ والبردياتِ العربيةِ في مكتبةِ ديرِ مكاريوس من القرنِ الحادي عشرَ أكبرُ من عددِ المخطوطاتِ القبطيةِ وهذا يدلُ على تفضيلِ الرهبانِ المطالعة بالعربيةِ.
- عُثرَ بالمكتبةِ السابقةِ على قواميسٍ عربيةٍ يونانيةٍ وعربيةٍ قبطيةٍ اتخذها الرهبانُ لمساعدتهم في قراءةِ الكتابِ المقدسِ.
- من الثابتِ قطعًا أنه في أوائلِ القرنِ العاشرِ الميلاديِ تمت ترجمةُ « سيرة جون الصغير » إلى السريانيةِ من النصِ العربيِ وليس من الأصلِ القبطيِ. 

خامسًا- موت اللغة القبطية كلغةِ تخاطبِ فرديةٍ ثانيةٍ عند البعض:

يقولُ الأستاذُ الدكتورُ/ محمود مختار عمر:
" وأما ما ذكرهُ بعضهم عن وجودِ أناسٍ يتكلمونَ اللغةَ القبطيةَ حتى عصرٍ متأخرٍ فما هي إلا حالاتٍ فرديةٍ نادرةٍ لا يبنى عليها حكمٌ، وهي من ناحيةٍ أخرى ليست كافيةً للقولِ بحياةِ لغةٍ ما ،ولا يكفي لاعتبارِ اللغةُ حيةً أن يتكلمها فردٌ أو فردان عن طريقِ التعلمِ، أو أن تكون لغةً ثانيةً يصطنعها بعضُ الناسِ عن عمدٍ أو تعصبٍ، ومما يدلُ على ندرةِ من بقى يتكلم القبطيةُ بعد تلك الفترةِ أن الرحالةَ إلى مصر على الرغمِ من تنقيبهم الشديدِ كان يُصعب عليهم مقابلةَ أي شخصٍ يعرفُ القبطيةَ، وإذا حدثَ ووجدَ أحدهم من يتكلمها كان يزعمُ أنه أخر شخصٍ يتحدثُ بها" 
تعرف على: أسباب السلوكيات السيئة في المدارس وكيفية تجنبها
إذًا القبطيةُ لم تمت فجأةً بل بدأ موتها قبلَ الفتحِ الإسلاميِ بقرونٍ، والعربُ لم يفرضوا العربيةَ على الأقباطِ بل فرضت العربيةُ نفسها؛ لقوتها الماديةُ والمعنويةُ والعددية- مع الزمن- ولقوةِ أصحابها العرب المادية والمعنوية، إذًا هي معركة هادئة صامتة كان أحد طرافها ضعيفًا مريضًا قبل أن يقابل الطرف الآخر القوي الصحيح بكل عوامل القوة والانتصار؛ لذلك كان الانتصار الساحق النهائي للعربية والهزيمة الأبدية للقبطية.
مع الجهل والحقد تنسب المواقع الإلكترونية والصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي والكتاب الجهلاء- من فئة بئر السلم- كلامًا منسوبًا للأنبا ساويرس عن الحاكم بأمر الله وعصره، فهل كتب ساويرس بن المقفع- بعد وفاته ( ٩٨٧م)- عن زمن الحاكم بأمر الله بعد توليه السلطة ( ٩٩٦م)؟!!
للإلمام أكثر حول هذا الموضوع رِ باق مقالتنا حوله ستجدها في مقال: أسئلة حول موت اللغة القبطية وانتصار اللغة العربية عليها.
نتمنى أن نساهم في تقديم ما يفيد للباحثين عن موضوعات تخص:
اللغة القبطية.
متى نشأت اللغة القبطية؟ وكيف نشأت؟
اللغة القبطية قبل الفتح الإسلامي لمصر.
اللغة القبطية واللغة اليونانية.
تأثير اللغة اليونانية على اللغة القبطية.
علاقة اللغة القبطية باللغة المصرية القديمة.
لهجات اللغة القبطية الصعيدية والأخميمية والبحيرية والبشمورية والفيومية.
العرب واللغة القبطية.
حال اللغة القبطية بعد الفتح الإسلامي لمصر.
الوليد بن عبد الملك بن مروان واللغة القبطية.
المأمون واللغة القبطية.
الحاكم بأمر الله واللغة القبطية.
الحملة الفرنسية واللغة القبطية.
أسباب ضعف اللغة القبطية.
المصادر والمراجع:
1- أحمد مختار عمر: قصة اللغة العربية في مصر.
2- سيدة إسماعيل الكاشف: مصر في فجر الإسلام.
3 - المقريزي: الخطط ج١.
4- المقريزي: البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب.
5- لجنة التاريخ القبطي: تاريخ الأمة القبطية، الحلقة ٢، خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ١٣٧ طبعة ١٩٣٢، المطبعة الحديثة شارع خيرت.
6- ماك مايكل: تاريخ العرب في السودان ج ١ ص ١٦٣. Macmichael: A Hit Of the Arabs in the Sudan
7- ألفرد بتلر: فتح العرب لمصر، ترجمة محمد فريد أبو حديد، دار الكتب.
8- حسن أحمد محمود : مصر في عهد الطولونيين.
9- عبد الله خورشيد البري: القبائل العربية في مصر في الثلاث قرون الأولى من الهجرة.
                                                                                 جمال الغريدي
جمال الغرِّيدي
جمال الغرِّيدي